Post Top Ad

Your Ad Spot

د. عبد العزيز حموده (إشكالية نظرية موت المؤلف)

من أين ينبت الشوك، ومن الذي يتألم؟!

مثل هذا السؤال يصف حالة يعيشها النقد عامة في عصرنا الحاضر، ولن نستعجل الإجابة، و القول إن الشوك ممن يرمي بفكرة بكتيرية في جو رطب، وبعدها تبدأ العفونة ويستشري الداء!!

لا.. لن نجيب بهذا، وإنما سنقف عند نظرية موت المؤلف في تجرد تامٍ، وسنمد جسراً بيننا و بين ملامح القضية (هل نظريتهم تعد نظرية، أما أنها فكرة تضخمت في نقدهم، وتورم بها نقدنا) هو أيضاً سؤال متعب.. ولكنه خيط آخر ربما يصف ملامح القضية أو يؤطرها في إطارٍ ما.

يقول كل من (ناب) و (مايكلز): «إن النظرية تحاول أن تحل أو تحتفي باستحالة حل مجموعة من المشاكل المألوفة: وظيفة قصد المؤلف، وضع اللغة الأدبية، دور الفرضيات التفسيرية، وهكذا.. في رأينا إن الخطأ الذي تقوم عليه النظرية النقدية كلها يكمن في تصور أن المشاكل حقيقية، والواقع أننا نرى أن تلك المشاكل تبدو حقيقية فقط». (2)

فهل جاءت نظرية موت المؤلف تبعاً لمشكلة حقيقية فعلاً، أم أنها جاءت تبعاً لمزاجية ذهنية اتصف بها صاحبها، مع العلم أن (كارل بارت) صاحب هذه النظرية كما يرى د. عبدالعزيز حمودة في كتابه (الخروج من التيه) «كان إنساناً متقلب المزاج إلى حد كبير يسير وراء الجديد و «الموضة»، وإنه تحول عن البنيوية إلى التفكيك في الوقت الذي كان فيه جاك دريدا قد بدأ يحدث ضجة كافية لإقناع بارت بذلك التحول (3) وبرغم أنه عمل على (التدمير المستمر للعلاقة بين الكتابة والقراءة، وبين مرسل النص ومستقبله (4) وهو مضمون نظريته (موت المؤلف) إلا أنه عقرها بعد حينٍ، حين عاد إلى المؤلف واعترف بوجوده، ولا جدوى إماتته، أو إقصائه عن نتاجه الإبداعي، مما يدل على أن هذه النظرية وأثناء محاولتها المرتبكة للعيش كانت جاهزة للموت، فصاحبها وموجدها ذاته أحس تجاهها بشيء من عدم الثقة وعدم الجدوى.. وهذا بحد ذاته ينقذنا في هذه الورقة من التدليل على ضعف النظرية، وضيق أفق الذين ما يزالون يعتقدون بوجودها من نقادنا العرب، والذين لا يتوانون في التبرير لنصوصهم المبتورة بسؤالهم: «ألم تسمع بنظرية موت المؤلف؟!».

وإن كانت حالة الصمم موجودة فلعلها أصابتنا إذ لم نسمع بهذه النظرية، وأصابتهم إذ لم يسمعوا بتراجع صاحبها عنها، وبهذا... فالجهل متبادل، والحوار أشبه بقرقعة سكاكين! ومن هنا بالضبط ينبت الشوك، إذ لا نفكر بما نقرؤه بتعمق، وفي ظل دراسة مستفيضة للأخذ أو الرد، ليعنون أحدهم بعدها مقاله الصحفي ب: (أثر النظرية الغربية على النقد العربي: إيجابي أم سلبي/ متأخر أم جزئي/ أم أنه ليس أثراً بقدر ما هو ركون وانحدار فكري) عنوان طويل يحمل وصفاً دقيقاً فاقعاً وموجزاً!

ولو جئنا إلى ما تريد النظرية أن تصنعه في العملية الإبداعية، لوجدنا أنها ببساطة تريد: أولا: أن تميت الكتاب قاصدة تقديس اللغة باعتبارها الفاعل الحقيقي وأما المبدع فليس أكثر من وسيلة تستخدمها لتخرج، قال أحدهم: نحن لا نكتب باللغة وإنما هي التي تكتب من خلالنا! والعجيب فعلاً أن الإنسان لما اخترع اللغة للإبلاغ عما يفكر فيه، ما كان يتوقع أبداً أن يحدث له ما يختصره المثل العربي (سمن كلبك يأكلك)!

وأما الهدف الثاني والأخطر الذي تسعى إليه النظرية فهو: تقديس النص وإعطاؤه صفة الأسطورة، حتى إن بعض النقاد يسعون لدراسة النص في ولادته الأولى وصورته العذرية الأولى، وصورته بعد التنقيح والتعديل، والبعض يعد العودة إلى النص والتغيير فيه خدش وإساءة، وكأننا أنبياء لا ننطق عن الهوى!!

كما أنها تجعل الإنسان منفصماً فتزعم أن (أناه) تختلف عن (أنا) المبدع فيه، وبالتالي تميته بعد أن يبدع نصه، انظر قول موخاروفسكي: «إن الأنا الشاعر لا ينطبق على أية شخصية فعلية ملموسة، ولا حتى شخصية المؤلف نفسه، إنه محور تركيب القصيدة الموضوع».

ثم ألا يعد موت المؤلف موتاً لرسالته الفكرية التي قصد إليها من خلال نصه، أو رسالته الوجدانية، أما أننا فعلاً «أصبحنا نعيش في عصر (اللا معنى)، عصر تأجيل الرسالة واستبعادها كما تقول هيلين سيزو!

العجيب أو الطريف أن هذه النظرية تملك وجهاً بريئاَ وناعم الملامح يخدع بعضنا أحياناً ليأخذ بها، إذ تزعم أن غايتها هو فتح الفضاءات العديدة للناقد بعيداً عن تلك القيود والروابط التي يحتكم لها النقاد التقليديون الذين لا يمكن أن يفصلوا بين المؤلف والنص (حيث يعدون النص أثراً يقدمه المبدع لأثر الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية عليه في العصر الذي يعيش فيه).

بارت يرى أن النص: كصفحة السماء، ناعمة منبسطة وعميقة من دون حواف أو علامات، والقارئ كالعراف الذي يرسم عليها بطرف عصاه مربعاً وهمياً يستطيع أن يستقرئ منه حسب قواعد معينة حركة طيران الطيور (5).

ولقد صدق بارت فعلاً في تشبيهه بالعراف، غير أنه عراف دجال، سيضع كما يقول د. صالح الزهراني النص على أجهزة التعذيب ويجبره على الإفضاء باعترافات كاذبة! وهذه النتيجة التي يسعى لها النقاد نتيجة تحدث شيئاً من الفوضى والعبثية النقدية لا الإضاءة و خدمة النص، رغم أنهم يزعمون أن فوضى القراءة تعطي نوعاً من الأهمية للنص، حتى لو تناقضت..

فهل هذا هو النقد، وهل هذا دور الناقد؟!

لكأن المبدع نحلة بمجرد أن تلدغك تموت، فبمجرد أن يلدغ المبدع اللغة بنصه يموت! وليس من العدل أن ننسف النظرية تماماً لنثبت أنفسنا، فلا شك أن ورود مثلها وغيرها إلينا كان مفيداً (6) وذا آثار طيبة، حيث حققنا من خلالها كشوفاً مهمة في قراءة النص النقدي و الإبداعي، لم تكن لتتحقق لولا هذه المثاقفة.. بل إن الجدير بالذكر أن المشكلة ليست في وجود نظرية مثل هذه لدينا، وإنما في (كيفية) تعاملنا معها!!

نحن نميل إلى نفي أن تكون نظرية، وإنما هي فكرة فشلت في الحياة، عدا عن كونها تجعل حقوق الإبداع غير محفوظة وتتيح للصوص الأدب أن يمارسوا لصوصيتهم بحرية.. وعندما تحقق فعلاً مبدأ إتاحة الحرية، لا للناقد في قراءة النص، بل للص الطفيلي في سرقة نص يعجب!

وبرأينا.. إن كان ثمة فائدة ما لهذه النظرية الفاشلة، فلعل في فكرة (تغييب المؤلف) ما يمنحها فائدتها إن شئنا استبدالها، بحيث يغيب الناقد المؤلف حين يريد سبر أغوار النص بحرية، و يستحضره ليفكك دلالات لا تمسك إلا بحضوره، وعندما تنتهي الأزمة، ولا يكون للنظرية أي سلطة، بقدر ما يكون للغاية الحقيقية الخادمة السلطة كلها.. فالنقد ضوءٌ مطرق في نص معقدٍ كتبه الإنسان (بأيديولوجية) معقدة تكونه، والتيه بعيداً عن هذا المفهوم يلغي قيمة النقد و قيمة النص وقيمة المبدع!

الهوامش:

(1) مصطفى صادق الرافعي: وحي القلم، ج2، دار الكتاب العربي بيروت 1423ه 2002م: ص21.

(2) د. عبدالعزيز حمودة: الخروج من التيه (دراسة في سلطة النص)، العدد 298 نوفمبر 2003م: ص38.

(3) السابق: ص62.

(4) السابق: ص63.

(5) د. عبدالعزيز حمودة: المرايا المحدبة: ص337.

(6) د. صالح الزهراني: بحث بعنوان (العقل المستعار بحث في إشكالية المنهج في النقد العربي الحديث المنهج النفسي أنموذجاً).

Post Top Ad

Your Ad Spot

Pages