بقلم: مجد عبد الفتاح
........................
بعد رحلة حافلة بالعطاء توفِي الدكتور عبد العزيز حمودة- أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية جامعة القاهرة- عن عمر يناهز الثامنة والستين عامًا.
الدكتور عبد العزيز حمودة وُلد عام 1937م بقرية دلبشان مركز كفر الزيات بمحافظة الغربية، وتلقَّى تعليمه الأولي بطنطا، ثم التحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية جامعة القاهرة حتى تخرَّج عام 1962م ليُبتَعث إلى جامعة كورنيل الأمريكية للحصول على درجة الماجستير في الأدب المسرحي عام 1965م، ثم حصل على الدكتوراه من نفس الجامعة عام 1968م، وعاد إلى جامعة القاهرة ليعمل بتدريس النقد والدراما والأدب المسرحي، كما عمل أستاذًا للدراما بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وأستاذًا للنقد المسرحي بأكاديمية الفنون، وتدرَّج في عمله الأكاديمي حتى تم اختياره عميدًا لكلية الآداب عام 1985م حتى يوليو 1989م، ثم عمل مستشارًا ثقافيًّا لمصر بالولايات الماحدة الأمريكية، وبعد العودة عمل بكلية الآداب ثم تولى رئاسة جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا ليستقيل منها بعد موقفه الحاسم من الإدارة؛ بسبب قبول الطلاب دون الاهتمام بالمجموع والمستوى.
تميَّز الدكتور حمودة بأنه كان مثقَّفًا كبيرًا وإنسانًا نبيلاً كما يقول الناقد الدكتور حامد أبو أحمد- عميد كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر- فكان مثقفًا كبيرًا وجريئًا في نقد تيار الحداثة الذي أفسد النقد الأدبي وجعله تابعًا تغريبيًّا، وأدى إلى تشويه النقد، فمما يذكر له أنه وقف في خندق ثقافة المقاومة واللجوء إلى التراث في مواجهة الحداثيين، وأضاف أن الدكتور عبد العزيز قدم رؤيةً معارِضةً تمامًا لرؤية الحداثيين العرب، وكشف طريقتهم في التأليف والاستعانة بالكتب الأجنبية، كما أنه من كتَّاب المسرح السياسي التقليدي، وقدم له المسرحُ مسرحياتٍ في طيبة وليلة الكولونيل الأخيرة، والرهائن، والظاهر بيبرس، والمقاول، وهذه الأعمال تحتاج إلى دراسة وتسليط الأضواء عليها.
أما الدكتور محمد عناني- أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة- والذي ينتمي إلى ذات مدرسة الدكتور عبد العزيز حمودة فيقول: إن حمودة ناقد أدبي بالتكوين والحرفة، وقد تعلم النقد في الجامعة المصرية والجامعات الأمريكية، ومارَس النقد بالكتابة والمحاضرة والمشاركة في الندوات والمؤتمرات.
النقد اليساري
ويوضح الدكتور عناني أن الدكتور حمودة جاء في وقت كان فيه النقد التطبيقي يمرُّ بأزمة، وهو ما حبَّب رشاد رشدي في تكوين جماعة النقاد، وبناءً على مذهب ما يسمى بالنقد الجديد (وهو النقد التحليلي) مارسنا هذا في الستينيات حتى بداية السبعينيات ومعنا الدكتور حمودة، ثم انقضَّ اليسار بكل قواه؛ ليفرض على الساحة مذهبًا أيديولوجيًّا، وهو قياس العمل الفني لمدى قيمته الأيديولوجية لا قيمته الفنية.
ثم اضطُّر حمودة إلى الانسحاب من الساحة في الثمانينيات عندما رأى التيار الجديد (نظرية النقد الحديثة) وروادها فرنسيون يهود ومهاجرون روس يهود، مثل دريدا وباكوفسكي وغيرهما، وهؤلاء كانوا منعدمي الأيديولوجيا إلا إيمانهم بالعنصرية اليهودية، وكانوا يدعون إلى هدم كل شيء، بما في ذلك هدم الإيمان بالله، وساعدهم في ذلك الواقع الأوروبي المنصرف عن الدين.
وعندما لاحظ حمودة أن الوسط الأدبي منبهر بهذه النظرية دون إدراك كامل للفلسفة وراءها فكتب كتابه (المرايا المحدبة) 1998م، واتخذ فيه موقفَ العداء والهجوم، ورفض النظرية الحديثة استنادًا إلى موقفها الإيديولوجي الذي لا يتفق مع تقاليدنا ومعتقداتنا وتراثنا، وكان هناك أستاذ أمريكي هاجم دريدًا في كتاب (تهافت التفكيكية) وبيَّن أنها فاسدة الفكر والفلسفة، وهاجم حمودة كلَّ هذه المدارس، أما في كتابه الثاني (المرايا المقعرة) والثالث (الخروج من التيه)، فحاول تقديم نظرية ثابتة في النقد العربي تتكئ على التراث العربي بعد فضْحِ المدارس النقدية الغربية، وقد أثرت كتب حمودة في العالم العربي تأثيرًا كبيرًا، وأعادت الثقة للمبدعين والنقاد العرب، بأن لديهم تراثًا جديرًا بإعادة الاكتشاف والانتفاع بذخائره.
وفي أسًى وحزن قال الدكتور عناني: إننا في مصر يصعُب أن ترى الأثر بشكل جيد؛ لأن كل إنسان مشغول في أموره الخاصة، وعالمُ الأدب والنقد مليءٌ بالشللية، فالمسألة أصبحت مصالح فقط.
إنجاز مهم
الدكتور خالد فهمي- أستاذ علم اللغة بكلية الآداب جامعة المنوفية- يَعتبر المشروع النقدي للدكتور عبد العزيز حمودة المتمثل في كتبه الثلاثة (المرايا المحدبة- المرايا المقعرة- الخروج من التيه) أهم إنجاز فكري وثقافي على الإطلاق في السنوات العشر الماضية، وينقل الدكتور خالد عن الدكتور عبد العزيز حمودة عندما هاتفه أستاذ قانون شهير وقال له: لقد استطعت أن تصنع ثقبًا واسعًا في جدار حديدي (يقصد الحداثة الغربية) وقد أعطيتنا شجاعةً بأن نحاول أن نثقب هذا الثقب في جدار الدراسات القانونية وأن نبحث كما بحثت عن نظرية عربية قانونية، وهذا يدل على تجاوز أثر الدكتور حمودة الدراسات الأوروبية ليكون منارًا فيما بعد لفتح الباب أمام قراءة التراث الفكري العربي في مختلف الدراسات والمجالات.
ويضيف الدكتور خالد فهمي أن الحكم على مشروع الدكتور حمودة ينبغي أن يؤخَذ في إطار أنه ابن بارٌّ للثقافة الأمريكية قبل تحوُّلِه إلى المشروع العربي التراثي، خاصةً أنه حصل على الدكتوراه من الولايات المتحدة عن الشعر في نهاية التاريخ لفوكوياما، وكان من المبشِّرين بالحلم الأمريكي، وله كتاب "الحلم الأمريكي" نشرته دار سعاد الصباح، وهو مجموعةٌ من المقالات.
وكانت بداية تحوله أنه عندما قرأ الحداثيين العرب لم يفهم مقصدَهم واتضح أنهم غامضون ولم يُحسنوا التعبيرَ عما يريدون، فبدأ يقرأ أصول النظرية الحداثية في الغرب، فكتب كتابه الأول "المرايا المحدبة" وفيه اكتفى بعرض أصول النظريات الحداثية كما يكتبها النقاد الأوروبيون، لكنه لم يكتف بذلك، وأكمل بالكتاب الثاني "المرايا المقعرة" وهدفه إظهار أن الحداثيين العرب شوَّهوا ما نقلوا وابتسروا نقاطًا معينةً، لكنَّ أخطر القضايا التي يفجِّرها الكتاب أنه ألمَحَ إلى أن أيادي المخابرات الأمريكية ضالعةٌ في توجيه الحداثيين العرب، وكان أول من أشار إلى كتاب "من يدفع أجر العازفين؟!" لفرانسيس سوندرز، الذي ترجمه فيما بعد طلعت الشايب بعنوان "الحرب الثقافية الباردة".
ثم كان البحث عن بديل عربي في الكتاب الثاني ثم الثالث، وقال: إن النص ينبغي أن يقرأ في إطار أن كل ثقافة لها خصوصية والدكتور عبد العزيز حمودة، قد أحيا مصطلحًا عن العقاد هو (الهوية الواقية) يعني جهاز المناعة لدى الأمم؛ ولذلك اعتبر العودة إلى التراث البلاغي العربي ليس بعيدًا عن فكرة إعجاز القرآن؛ لأن البلاغة هي التي احتضنت القرآن وفي إطار أن هناك معنى.
نجاح كبير
وعن مدى نجاح حمودة ومشرعه في مواجهة الحداثيين يؤكد الدكتور خالد فهمي أنه نجح بقوة، والدليل على ذلك أن الكتب الثلاثة نُشرت في واحدة من أشهر الدوريات العربية وأوسعها انتشارًا (عالم المعرفة) ومعروف أن معظم القائمين على هذه الهيئة من العلمانيين والحداثيين، وعلى رأسهم الدكتور فؤاد زكريا وكذلك المحكِّمون لهم علاقة بالثقافة الغربية، فمنهم الدكتور سعد مصلوح وهو حاصل على الدكتوراة في علم اللغة من روسيا.
والدليل الثاني هو منح عبد العزيز حمودة جائزة الدولة التقديرية من المجلس الأعلى للثقافة، وهذا المجلس على رأسه جابر عصفور أشد المعارضين لحمودة، ويضيف الدكتور خالد فهمي: إنني كنت شاهدًا على تأكيد تحوُّل الدكتور حمودة إلى الحالة الإسلامية، فقد ذكر أمامي في الندوة التي عقدتها جريدة (آفاق عربية) لمناقشة كتابه "الخروج من التيه" أن الرابطة العالمية للأدب الإسلامي طلبت منه الكتابةَ عن قضية الأدب الإسلامي ووعدهم خيرًا، وهذا إعلان لضم حمودة لصف الحالة الإسلامية.. انتهى كلام الدكتور خالد.
أما معركة عبد العزيز حمودة مع الحداثيين فكانت ضاريةً، وصفها لكاتب هذه السطور بنفسه في حوار صحفي بعد صدور كتابه الثالث "الخروج من التيه"، فقال رحمه الله إنها كانت حملةً شعواء، لدرجة أن شاعرًا حداثيًا وصف الدعوة إلى نبذ الحداثة الغربية بأنها تمثل الدعوة إلى ركوب الجمال، كما هوجم في جريدة (أخبار الأدب) وبعض المجلات العربية التي يقف على رأسها الحداثيون، ولكن مع ذلك نجح مشروع الدكتور حمودة، لدرجة أن واحدًا من أهم روَّاد الحداثة، وهو الدكتور جابر عصفور، كتب مقالاً بعنوان "موت الحداثة" وفي مقال آخر كتب: أصبحت أحترس في استخدام لفظ الحداثة، فما قدمه الدكتور عبد العزيز حمودة للثقافة العربية وهو ابنٌ للثقافة الغربية يُعتبر هديةً من ذهب في التراث البلاغي العربي ونصحًا لكل من يسوق أفكارًا لمجرد أنها غربية.
تحفيز الصامتين
ومن أهم نتائج هذا المشروع أنه شجع الصامتين الذين كانوا يرفضون الحداثة ولا يفهمونها وكانوا يتهمون أنفسهم بعدم الفهم، ولكنه- كما يقول الدكتور إبراهيم عوض أستاذ الأدب العربي بجامعة عين شمس- فتحَ الباب أمام كثيرٍ من أساتذة النقد، فقد كتب كتابه "المرايا المشوهة" امتدادًا لفضح الحداثيين، وكثير من النقاد بدأوا يدخلون هذا المعترك الذي خاضه بذكاء وحكمة الدكتور عبد العزيز حمودة.
أما الدكتور حسين نصار- أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة- فيقول إنه على الرغم من تخصص الدكتور حمودة في الأدب الإنجليزي إلا أنه كان على معرفة تامة بالأدب العربي أكثر من كثير من المتخصصين، مثل معرفته الوثيقة بالأدب الإنجليزي، فتعلم النقد الإنجليزي، وتعرف على مدارسه ومذاهبه، وكان يتابع أثره في الأدب العربي، وهي ميزةٌ لا تتوفر إلا للقليل، وقد مكنت الثقافة الواسعة لديه من مواجهة الحداثيين؛ ليكون بذلك من أهم من وقفوا بجانب التراث والأصالة أمام التيارات الغربية المزيفة.
وقد اهتم الدكتور عبد العزيز حمودة بمجاله، فألَّف في الأدب الإنجليزي وترجم منه ومن الدراسات التي قدمت له علمَ الجمال والنقد الحديث، والمسرح السياسي والبناء الدرامي والمسرح الأمريكي والحلم الأمريكي، كما أن اهتمام حمودة في مقالاته بـ(الأهرام) كان ينصبُّ على إحياء الثقافة العربية في مواجهة أمريكا التي تريد الهيمنة على الثقافة العربية.
وقد نالت كتب حمودة بعض الاهتمام، خاصةً من جانب الباحثين العرب في دول سوريا والأردن، وما زالت أعماله تحتاج من الباحثين العكوف والدراسة للخروج بخلاصة ما قدم وإضافة المزيد.
..............................
*عن موقع إخوان أون لاين - 11/9/2006م.
د. حسين علي محمد
16-09-2006, 12:02 AM
المفكّر والناقد الدكتور عبد العزيز حمودة: