رغم أنه رحل عنا منذ أكثر من ست سنوات ورغم أن هذه الأيام ليست ذكرى مولده أو حتى رحيله، إلا أننى كلما قرأتُ سطوراً لكاتب جاد أشعر فيها بالجدية واحترام النفس أتذكر هذا الرجل الفاضل الأستاذ الدكتور عبدالعزيز حمودة ... رحمه الله رحمة واسعة. والذى يريد أن يكتب عن مفكر فى حجم الراحل د. حمودة لا يحتاج إلى مناسبة تذكره به لأن كل شئ محترم فى هذه الحياة مناسبة للكتابة عن الرجال المحترمين.
لمن لا يعرف هذا الرجل الذى أكتب عنه اليوم أكتب هذه السطور المتواضعة علها تكون إشارة لأستاذ تتلمذ على يديه الكثيرون. فهو الأستاذ الدكتور عبدالعزيز عبدالسلام حمودة (1937-2006) أستاذ الأدب الإنجليزى بكلية الآداب، جامعة القاهرة، الذى أحدثت ثلاثيته (المرايا المحدبة، والمرايا المقعرة، والخروج من التيه) زلزالاً ثقافيا كان له من الأثر العميق ما له بين المثقفين فى مصر والوطن العربى. ولد د. حمودة بقرية دلبشان بكفر الزيات، محافظة الغربية، وتلقى تعليمه الأوَلى بمدينة طنطا ثم التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة ثم أُبتُعث إلى جامعة كورنيل بأمريكا حيث حصل منها على درجتى الماجستير (1965) والدكتوراه (1968) وعاد بعدها ليعمل بآداب القاهرة فى مجال النقد والأدب المسرحى. تدرج د. حمودة فى عمله بكلية الآداب حتى أصبح عميداً لها فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى. ثم عمل مستشاراً ثقافياً لمصر بالولايات المتحدة الأمريكية فى أوائل التسعينيات وعاد بعدها لعمله الأكاديمى بجامعة القاهرة رئيساً لقسم اللغة الإنجليزية. سافر د. حمودة إلى الإمارات حيث عمل عميداً للدراسات العليا بجامعة الإمارات وبعد أن عاد لمصر عمل نائباً لجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا ثم رئيساً لها حتى توفى فى عام 2006.
كتب د. حمودة عدداً من الكتب النقدية مثل علم الجمال والنقد الحديث والمسرح السياسى ومسرح رشاد رشدى والبناء الدرامى والمسرح الأمريكىوالحلم الأمريكى فضلاً عن ثلاثيته المذكورة أعلاه. كما أننا لا ننسى أبداً أعماله الإبداعية المسرحية مثل الناس فى طيبة وليلة الكولونيل الأخيرةوالرهائن والظاهر بيبرس والمقاول. كما حصل د. حمودة على جوائز مثل جائزة الدولة التقديرية للآداب (2002) (التى جاءت متأخرة جداً لأنه لم يعزف على أوتار النظام الظالم) كما حصل على لقب شاعر مكةفي النقد (2000) من مؤسسة يماني الثقافية عن كتابه المراياالمحدبةوفوزه بجائزة محمد حسن الفقي السعودية مناصفة مع د. حسن بن فهد (2006).
كنت أرى د. حمودة، كما كان يراه غيرى الكثيرون، رمزاً للأدب ودماثة الخلق الذى لا يختلف عليه اثنان. كنتُ أراه عميداً للثقافتين: الإنجليزية والعربية؛ فقد تخصص فى الأولى ونهل منها ما نهل ليدافع به عن الثانية حتى آخر رمق. عاش معطاءً لتلاميذه ومريديه، لم يبخل عليهم قط لا بالعلم ولا بالنصيحة. أحبَ تلاميذه فأحبوه واحتفظوا له بمكانة كبيرة جداً فى قلوبهم.
لقد كنت أسمع عن د. عبدالعزيز حمودة منذ نعومة أظفارى؛ وحينما رأيته عن قرب، فى المناقشات العلمية بجامعتى القاهرة وعين شمس وغيرهما، زادت مهابتىله لإدراكى معنى القيمة الأدبية والثقافية المتجسدة فى شخصه المتواضع. وجاءت معرفتى الشخصية المباشرة به كأستاذ قبل رحيله بخمس سنوات وكان ذلك تحديداً فى عام 2001 حينما توجهتُ لكلية الآداب بجامعة القاهرة للالتحاق بتمهيدى الدكتوراه بقسم اللغة الإنجليزية تمهيداً لتسجيل الرسالة فى الأدب الإنجليزى تحت إشرافه. كان من عادته وهو رئيساً لجامعة مصر للعلوم والكنولوجيا أن يلتقى طلابه ومريديه يوم الخميس بجامعة القاهرة (حيث كان يوم تفرغه من كل أسبوع) كما كان من عادته قضاء الساعات الأولى (من الثامنة والنصف صباحاً) من هذا اليوم فى حديثه الطيب مع صديق عمره وحبيب قلبه د. أمين العيوطى. ورغم أنه اعتاد لقاء مريديه من الطلاب فى حضور د. أمين وحيث إننى كنتُ قد أخذت منه موعداً مسبقاً بالتليفون أننى أريد مقابلته للتحدث معه فى موضوع الدكتوراه تحت إشرافه، إلا أننى وقفت على استحياء أمام المكتب: هل أطرق الباب وأدخل كغيرى من الطلاب أم أنتظر حتى ينتهى اللقاء بين الأستاذين الجليلين، وظللت هكذا إلى هدانى فكرى لأن أكتب له ورقة حملها إليه العامل بأننى خالد سرواح الذى كلمه أمس يريد مقابلته ولكنى أخشى المقاطعة. عندئذ نهض الأستاذ الشامخ فى تواضع ولين وخرج إلى: "تعالى يا خالد. أنا منتظرك من بدرى" ساعتئذٍ، زاد تواضع الرجل من هيبتى له لأننى تعاملت مع أساتذة آخرين ولم أجد مثل هذا التواضع من مثل هذا العالم والناقد الكبير. ومن تلك اللحظة اعتدت لقاء الأستاذ والحديث معه تليفونياً من وقتٍ لآخر وفى كل لقاء أو مكالمة كان يتأكد لى أنه مفكر وعالم بحق يتمتع بأخلاق العلماء.
وعن دقة الرجل وتواضعه وحرصه على طالبه فى البحث العلمى حدث ولا حرج. فخذ مثلاً حينما انتهيت من رسالة الدكتوراه وسلمتها له ليقرأها. بعد أن انتهى من القراءة—وكان قارئاً فاحصاً مدققاً أميناً فى قراءته وتعليقاته—وقد أخذ ضمن تعليقاته التنويرية علامات على أربع جمل بأربع مواضع مختلفة—بفصل يتناول الجانب السياسى فى مسرح توم ستوبارد—كنت قد ربطت فيها الوضع بسياسة أمريكا الاستعمارية فى العراق وروسيا فى الشيشان وكذلك إسرائيل بفلسطين ولبنان. هنا عقب بكلماته: "ياخالد مفيش حد بيتكلم عن أمريكا والإسلام قدى، بس بلاش الحاجات دى فى الرسالة." وبعد أن قام بقراءة الرسالة للمرة الثانية وكان قد نصحنى فى القراءة الأولى بالتأكد من بعض حروف الجر ووجدنى باقياً على قليلٍ منها دون تغيير، بدأ تعليقه—وكنت أظنه يُثار—ليقول بتواضع العلماء وأخلاق المفكرين: "اسمع ياخالد، أنا لقيتك مُصر على بعض حروف الجر ففتحت القاموس لأن اللى بينى وبينك القاموس، لقيتك صح" حاولت أن أقاطع معتذراً، أضاف بقوله: "لا يا ابنى مفيش حد عارف كل حاجة. أنا ممكن ابقى صح وانت غلط وانت ممكن صح وانا غلط ." فى تلك اللحظة، كنت أتصبب عرقاً فى عز الشتاء متأملاً "من أنا حتى يقول لى هذا الرجل هذه الكلمات التى لا تخرج إلا من عالم متواضع؟" هذه الكلمات لم تزد هذا العالِم إلا عزاً وكرامة، فهو لا يعرف الكبر، وما عهد عليه أحدُ ذلك.
ومن الصفات التى لا يعرفها الكثيرون عن د. حمودة هى أنه لم يسع قط لأن يتقلد منصباً بل كان المنصب هو الذى يسعى إليه، وكان يستقيل أحياناً منه إذا لزم الأمر، وخير دليل على ذلك استقالته من منصبه كرئيس لجامعة مصر الدولية لموقفه الحاسم من الإدارة وأسلوب قبول الطلاب. مما لا يعرف عن د. حمودة هو أنه لا يعتمد على غيره فى تأليف أو حتى إعداد كتبه كما يفعل الكثيرون. كان للدكتور عبدالعزيز حمودة طابعاً خاصاً: كان يجبر كل من يعرفه على احترامه، احترمنا فيه هيبة العلماء وتواضع العظماء وأحببنا فيه حنان الآباء.
للأسف الشديد، كنت، لحبى وتقديرى لهذا الرمز الكبير ولتشاؤمى فى الوقت نفسه، أقلق عليه كثيراً خوفاً من أن يأتيه الموت بغته ويحرمنا منه خاصة أننا اعتدنا رؤيته بقسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة أو سماع صوته عند اتصالنا به تليفونياً. لذا، كانت الصدمة مفجعة حينما أخبرنى أحد الزملاء بوفاته. لم أُصدق لأن آخر حديث لى به كان قبل الوفاة بأسبوع تقريبا حينما أكد لى تحسن حالته بقوله "احنا كنا فين وبقينا فين. فى تقدم كبير فى القدم." اتصلت به على نفس المحمول الذى أكلمه عليه دائماً ولأول مرة لا يرد على هو؛ ردت على زوجته التى أكدت لى صدق الخبر مما زاد من وقع الفاجعة على مسامعى.
وإن كان رحيل عميد الرواية العربية وصاحب نوبل نجيب محفوظ، الذى تزامن مع رحيل د. حمودة، قد شغلت الرأى العام عن وفاة د. عبدالعزيز حمودة وقتئذ، فلا يجوز بحالٍ من الأحوال أن ننسى هذا الأخير—عميد الثقافتين، العربية والأجنبية—محارباً عن التراث العربى والقضايا العربية. لا يجب أن ننسى ثلاثيته وكتاباته المختلفة التى تؤكد ذلك كله. فإنك إن لم تكن قريباً من د. حمودة لتعرف أنه متخصص فى الأدب الإنجليزى يصعب عليك تحديد تخصصه، وذلك لموسوعيته. فقد كان رحمه الله على دراية تامة بالأدب العربى—لست مبالغا إذا قلت—أكثر من أهل التخصص أنفسهم. فقد مكنه علمه بالنقد الإنجليزى ومذاهبه المختلفة من مواجهة الحداثيين الأفاقين و كشف طريقتهم الزائفة فى التأليف والاستعانة بالكتب الأجنبية والتصدى لهم دفاعا عن التراث والأصالة العربية.
ألا يجب أن يأخذ مثل هذا الرجل حقه من التكريم بعد وفاته؟ يجب أن يُنظر لأعماله نظرة ما بعد الرحيل، فلا شك بأنها تختلف كثيراً لأننا لا نشعر بالقيمة الحقيقية للشيء إلا بفقدانه، نعم! وهذه دعوة لجمع كتاباته ومقالاته المختلفة بالأهرام وإعادة النظر إليها من جديد. ندعوا الله الحى القيوم أن يتغمده برحمته ويجعل سيرته الطيبة ودعاءنا له فى ميزان حسناته…آمين.